أولاد يهوذا: موجز من تاريخ الخيانة
الخيانة ليست ظاهرة جديدة. فما شهدته الساحة اللبنانية في السنتين الماضيتين، ومصر أخيراً، من خيانة مواطنين وتعاملهم مع العدو الإسرائيلي، يغوص في التاريخ القديم، العربي وغيره. ومع أنّ يهوذا، الذي باع المسيح مقابل الفضة، يعدّ أشهر خائن في التاريخ، فإنّ للعرب حصتهم الكبيرة. ابن العلقمي، وشاور، وامرؤ القيس وأبو رغال وغيرهم، باعوا قومهم، وتعاونوا مع أعدائهم، كلّ لأسبابه. وللخيانة أهمية دفعت الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري، إلى تخصيص قسم من ديوانه «الكوميديا الإلهية»، للخونة
سيف دعنا (الأخبار العدد ١٣١٣ الخميس ١٣ كانون الثاني ٢٠١١)
في أعقاب إعلان كولن باول، الجمهوري الانتماء، الذي خدم وزيرَ خارجية في حكومة بوش الصغير، تأييده للمرشح الديموقراطي للرئاسة الأميركية، باراك أوباما، في تشرين الأول 2008، نشر رسام الكاريكاتور غوردون كامبل رسماً لبنيديكت أرنولد بوجه أسود، مع التعليق «بنيديكت باول، مناضل للعرق»، متهماً باول، بالتالي، بارتكاب عمل خيانة، من الطراز الأول. ربما كان هذا الرسم لافتاً، لأسباب كثيرة تتعلق بالعلاقات العرقية أو العنصرية والتمييز في أميركا. وربما يكون لافتاً أيضاً، لكونه يستمد منطقه من تراث قانوني إنكليزي قديم، استخدم لقمع أيّ شكل من المعارضة أو النقد للملكية المطلقة، بتخوينه التعسفي حتى للأفكار والكلمات، كما يحصل اليوم في بلاد «قانون الوطنية» (انظر: ريبيكا ليمن، الخيانة بالكلمات). لكنّه كان مؤشراً، إن لم يكن تأكيداً جديداً، على أنّ بنيديكت آرنولد هو، بلا منازع، دلالة الخيانة العظمى، والخائن الأول في التاريخ الأميركي.
اللافت في قصة وشخصية بنيديكت آرنولد، الذي قد يكون أحد أسباب اعتباره رمزاً متميّزاً للخيانة، ليس فقط أنّه خان شعبه، بل لكونه انتقل الى موقع الخيانة الكبرى من موقع البطولة المتميزة، أو لكونه استغل موقعه القيادي في التآمر على أبناء أمته. فآرنولد هذا، كان أحد أبطال وقادة الثورة الأميركية، أُصيب في معاركها ضد الجيش الإنكليزي، وكان قريباً من قائدها جورج واشنطن. لكنّه تآمر لاحقاً على الثورة ذاتها التي ضحى من أجلها، وانضمّ إلى الجيش البريطاني العدو، وانخرط في صفوفه في 1779، ومن ثم قاد الهجوم على مواقع رفاقه السابقين بنفسه.
للكثير من البلدان بنيديكت آرنولد الخاص بها، أي البطل القومي أو الثائر الذي تحوّل إلى خائن من الطراز الأول. فقبل أن يتحالف فيليب بيتان مع الاحتلال النازي لفرنسا، مثلاً، ويصبح زعيم حكومة فيشي، التي نصّبتها النازية الألمانية، وينفذ سياستها أثناء الحرب العالمية الثانية، كان أحد أهم أبطال فرنسا في الحرب العالمية الأولى. خيانته التي أفضت إلى الحكم عليه بالإعدام، الذي خُفف لاحقاً إلى السجن مدى الحياة فتوفي في 1951، حوّلت اسمه أساساً إلى اشتقاق مفهوم «البيتانية»، الذي دخل القاموس السياسي والشعبي الفرنسي (البيتانية هي السياسة الناتجة ممّا سمّاه ألان باديو، تحالف الحرب والخوف. انظر: ألان باديو، الفرضية الشيوعية، نيو لفت ريفيو، عدد 49، 2008). هناك أيضاً «البيتانية الجديدة»، التي تصف وتفسر العنصرية الساركوزية، وحتى البرلسكونية، في التعامل مع المهاجرين والفقراء.
وفي التاريخ العربي، يحظى ابن العلقمي، وزير الخليفة العباسي المستعصم بالله، الذي يؤرخ البعض لخيانته وتآمره مع التتار وتسهيل دخولهم لبغداد وخرابها، برمزية متميزة حين يجري الإشارة إلى الخيانة. وهناك أيضاً شاور، وزير الخليفة الفاطمي العاضد في مصر، الذي لم يكتف بمراسلة الصليبيين والتآمر معهم، بل والقتال الى جانبهم ضد أبناء أمته ومشاركتهم في حصار الاسكندرية (وهذا قبل مشاركة حاكم مصر الحالي للكيان الصهيوني في حصار غزة بحوالى ثمانمئة وخمسين عاماً) .
لكن قد تكون قصة امرئ القيس، الذي لم يتوانَ في طلب المساعدة من الروم لاسترداد ملك أبيه، ذات رمزية خاصة أيضاً في حاضر عربي، يستقوي فيه البعض بروم عصرنا. فبرغم عبقريته الشعرية، التي ربما لم يضاهِه فيها شاعر آخر، نقل عن الرسول محمد قوله في امرئ القيس، إنّه «صاحب لواء الشعراء في النار». كذلك رآه وحاوره ابن القارح مع شعراء آخرين شاهدهم في جهنم، وفق ما تخيل أبو العلاء المعري في «رسالة الغفران». وحتى في نقد محمود درويش «المجازي» لاتفاقية أوسلو، كما وصفه سنان أنطون، حضرت فعلة امرئ القيس الشنيعة برمزيتها (انظر: سنان أنطون، نقد محمود درويش المجازي لأوسلو، مجلة الدراسات الفلسطينية، شتاء 2002). وفي قصيدته «خلاف، غير لغوي، مع امرئ القيس» في مجموعة «لماذا تركت الحصان وحيداً» يقول درويش:
لم يقل أحد لامرئ القيس: ماذا صنعت
بنا وبنفسك؟، فاذهب على درب
قيصر، خلف دخان يطل من
الوقت أسود. واذهب على درب
قيصر، وحدك، وحدك، وحدك
واترك لنا، ههنا، لغتك!
قد يكون درويش، مثل الكثيرين من العرب، عشق شعر امرئ القيس (مَن مِن العرب لا يحفظ عن ظهر قلب مطلع معلّقته على الأقل، أو مقولته المأثورة حين علم بمقتل أبيه «اليوم خمر، وغداً أمر»). وقد يكون تأثر به فعلاً، لكن هذا لم ولا يغفر له فعلته. وربما كان درويش يفكر في ذلك «الملك الضليل»، الاسم الذي أطلقه العرب على امرئ القيس، حين كتب في مطلع التسعينيات عن «ملك الاحتضار» الذي يطيل التفاوض، يسلم مفاتيح القلعة، ويتلو معاهدة الصلح، في قصيدته «للحقيقة وجهان» في مجموعة «أحد عشر كوكباً». وربما كان درويش يفكر في شخص آخر لم يستطع ذكره مباشرة، لسطوته، حين قال لامرئ القيس «ماذا صنعت بنا وبنفسك»، و«اذهب على درب قيصر وحدك»، فالحاضر يمثّل ويؤسس رؤيتنا للتاريخ وروايته.
التاريخ العربي مليء بما ينبذ الخيانة بشدّة، بدءاً بأبي رغال، الدليل العربي للغزو الحبشي لمكة عام 570 ميلادية. فأبو رغال هذا، أصبح رمز الشيطان في الثقافة العربية، فرجم العرب قبره قبل الإسلام وبعده ولا يزالون، وضربوا فيه الأمثال. وذكره أشهر شعراء الهجاء، كما فعل جرير بتشبيه الفرزدق به في الضديات، وأحياه مجدداً، ليلعنه وأمثاله طبعاً، عميد الأسرى المحرر سمير قنطار في رسالته الشهيرة من المعتقل الصهيوني في آذار 2006 (يحكى أيضاً أن ما يرجمه ملايين الحجاج المسلمين في العاشر من ذي الحجة من كلّ عام، أهم أيام التقويم العربي، ولثلاثة أيام متتالية، في أحد أركان الحج ويعدّ رجماً لإبليس، هو في الحقيقة رجم الموقع المفترض لقبر هذا الفاجر، عملاً بتقليد عربي سبق الإسلام).
كذلك يجب ألّا ننسى حادثة «أبي لبابة» الشهيرة، وقصته مع بني قريظة، التي نزلت فيها الآية الكريمة التي تنهى عن الخيانة (الأنفال:27). كذلك، ما ورد عن الرسول الكريم في استعاذاته «اللهمّ إني أعوذ بك من الجوع فإنّه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنّها بئس البطانة»، وقوله «يُطبع المؤمن على الخلال كلّها إلا الخيانة والكذب».
الأسماء التي دخلت وتدخل تاريخ الشعوب، وأحياناً تاريخ الإنسانية جمعاء في بعض الحالات كرموز قبيحة للخيانة، لم تكن مجرد حالات تآمر مع العدو وخيانة لبني الجلدة فقط، بل عادةً ما تكون هذه الشخصيات قد انتقلت من موقع الى موقع آخر مضاد، وفي الأغلب من موقع الثورة والتغيير والقيادة الى موقع الخيانة، أو أنّها استغلت موقعها المتنفّذ لدى شعبها، لخيانته والتآمر عليه. أشهر هذه النماذج، رغم أنّه ليس أولها بالتأكيد، كان يهوذا الاسخريوطي، الذي خان معلمه، السيد المسيح، وانتقل الى الموقع المضاد. حتى إنّ أصل كلمة خائن بالإنكليزية (تريتور) مأخوذة من الأصل اللاتيني (تراديتوريم ـــــ الاسم تراديتور) التي تعني تسليم شيء ما، مثل تسليم شخص ما أو معلومات. وهي دلالة على فَعلة هذا الشقي، الذي سلم السيد المسيح مقابل ثلاثين قطعة من الفضة، وهو ما يفسر استخدام العديد من المعاجم اسمه كأحد مرادفات كلمة خائن. ليس هناك لعنة أكبر من أن يكون اسم شخص ما هو الأساس الذي تشتق منه كلمة الخيانة ذاتها، لكن عبقرية الشعوب التي يخونها بعض قادتها، أبدعت في تحويل اسم من يخونها الى نعت قبيح الدلالة، وأحياناً اشتقاق مفهوم ذي دلالات بشعة من الاسم كوسيلة للعقاب والتوبيخ الأبدي. فقرضاي، مثلاً، أصبح مفهوماً سياسياً، لا اسماً، مثل الكثير من الأسماء التي أصبحت دلالات سياسية قبيحة. فيكفي أن يوصف شخص ما بأنّه «قرضاي بلاده»، حتى يتلطّخ اسمه عند شعبه. وحتى بعض الألقاب مثل كلمة «شاه» لم تعد تدل على معناها الأصلي (ملك)، بقدر ما أصبحت تعني طاغية وتابعاً لأميركا. وهذه لعنة عبّر عنها بإبداع الشاعر أحمد فؤاد نجم في قصيدته «آه يا خي» في ملك مصر آنذاك:
«كنا والمظلوم إذا هاجم جريء
كنا لو كان الخميني عمنا
والمعارضة يد واحدة عندنا
دسنا شاهنا وأمريكانه بنعلنا».
لا تحتل خيانة يهوذا للسيد المسيح المرتبة الأولى بين كل الخيانات فقط. لقد أصبح هذا اللعين، في المخيلة والثقافة الإنسانية، مثل «الدال العائم» (حربائياً متلونناً، كما استخدم المفكر منير العكش هذا المفهوم)، يرمز لا لخيانته للسيد المسيح فقط، بل لكل، وأي من حالات الخيانة الكبرى كالتنازل عن الوطن أو خيانة الشعب وأبناء الجلدة. ربما لهذا السبب اختار دانتي اليغييري، صاحب «الكوميديا الإلهية»، أن يطلق اسم هذا الرجيم على الحلقة الرابعة والأخيرة (جوديكا)، والأسوأ بالتأكيد بين كل الحلقات، من الدائرة التاسعة والأخيرة، والأسوأ أيضاً بين كل الدوائر، من القسم السفلي للجحيم، التي خصصها مسكناً أبدياً للخونة.
وليس أدل على بشاعة اقتراف فعل الخيانة بحق أبناء الجلدة، من تراتبية دانتي لسكان الجحيم، كما جاء في «الكوميديا الإلهية». فهو لم يضعهم في أسفل دائرة فقط، بل حتى فضل عليهم أسوأ «القوادين» الذين منهم من باع جسد أخته، وجعل بينهم مسافة وفصل بينهم (أسكنهم الحلقة الأولى من الدائرة الثامنة، حيث يقبع فنيديكو كاتشانيميكو، الذي استخدم جسد شقيقته جيسوبلا لتحقيق أهداف سياسية). هناك كذلك في الدائرة التاسعة والأخيرة ذاتها، وفي حلقة أخرى تحمل اسم خائن آخر أيضاً، يقبع أنتينور الطروادي، الذي تآمر مع اليونان ضد بني جلدته وأهله في طروادة، وفتح للأغراب الأعداء باب المدينة المحصنة، وكان سبباً في سقوطها. وبرغم أنّ هوميروس، في «الألياذة»، وشكسبير، في «ترويلس وكريسيدا»، لم يشيرا الى خيانته بوضوح، فإنّ إدانة دانتي له ستلطخ اسمه وتلحق به العار إلى الأبد.
وفي أنتينورا، الحلقة الثانية في الدائرة التاسعة من الجحيم، التي سماها دانتي باسم أنتينور، وهي حلقة من يمكن تسميتهم بلغة عصرنا القادة الخونة، يقبع أيضاً أوغولينو، الشهير بأكل لحوم أبنائه. أوغولينو هذا، مثل الشقي الطروادي أنتينور، خان مدينته بيزا بتسليم قلاعها لعدوتها فلورنسا. هناك أيضاً، في الدائرة نفسها، يقبع بروتوس، الذي يشبه الى حد بعيد يهوذا، بفعلته وخيانته لقائده يوليوس قيصر. سيحفر شكسبير لاحقاً هذه الخيانة في الوعي الإنساني من خلال عمله «يوليوس قيصر»، لتصبح عبارته «حتى أنت يا بروتوس»، دلالة إلى الخيانة العظمى وقريبة كثيراً في رمزيتها من قبلة يهوذا للسيد المسيح. قبلة الموت، التي يذكرها شكسبير، كدلالة للخيانة أيضاً في «هنري السادس».
الدائرة التاسعة والأسوأ في الجحيم بحلقاتها الأربع، التي تحمل كلّ منها اسم خائن كدلالة على أنواع الخيانة الأربعة وموقع كلّ منها في الدائرة الأسوأ من جهنم، حسب تصنيف دانتي، تعج بالخونة. الطريف أنّ بعض من ذكرهم دانتي، حين كتب «الكوميديا» حوالى عام 1300 ميلادية، وشاهد أشباحهم في الجحيم، كانوا لا يزالون على قيد الحياة. وعاش بعضهم حتى أكثر من خمسة وعشرين عاماً، عقب روايته لمسلسل عذابهم في جهنم (يذكر دانتي، مثلاً، الأخ البريجو، الذي خان ضيوفه وأقرباءه وقتلهم، وكانت الإشارة طلبه للفاكهة بعد العشاء، فأصبح مصطلح «فاكهة الأخ البريجو» أو «فاكهة الشر» دلالة للخيانة أيضاً)، لكن أرواحهم، كما قال، تذهب الى الجحيم فور خيانتهم، رغم كونهم أحياء، ليبدأ عذاب الروح مع بدء الخيانة، فيما تتلبس الشياطين أجسادهم الحية الفارغة من الروح.
هناك في كلّ اللغات وكلّ الثقافات وكلّ أشكال التعبير، إجماع على بشاعة الخيانة وقبحها، واتفاق على لعنة الخونة. وهذه اللعنة، كما يبدو من كتب التاريخ والأدب والفن والفولكلور، تلاحق الخونة بكلّ اللغات، وفي كلّ الثقافات وبكلّ الأشكال الأدبية والتعبيرية، وتدوم ما دامت اللغة والثقافة والشكل التعبيري. وغالباً ما يكون متفهماً تماماً، في هذه التعبيرات، شكل نهايتهم. نهاية، تكون أحياناً بعضاً من عقوبة مستحقة، وإن كانت مقززة، كعقوبة أوغولينو الذي قضى آخر أيامه في السجن مع أبنائه جائعاً واضطر، حسب رواية دانتي، إلى أكل لحمهم. ربما أراد دانتي أن يشبّه من يخون شعبه بمن يأكل لحم أبنائه، أو أراد أن يزيل أي فارق بين من يخون شعبه ومن يأكل لحم أبنائه، الفعل الذي لا يمكن تخيله أو تخيل ما هو أبشع منه أبداً. بعض من انتقاهم دانتي ليضمهم إلى ملحمته الشعرية، لتلاحقهم اللعنة ما دام هناك من يقرأ شعراً على وجه هذه البسيطة، وأسكنهم الدائرة التاسعة، دخلوا التاريخ كرمز فريد للانحطاط. فأصبح هؤلاء، لاحقاً، مادة للتحقير في الأعمال الأدبية، والفنية، والتاريخية، كأنّه إصرار من التاريخ، على ضرورة استمرار عقاب هؤلاء الخونة والاستمرار في توبيخهم إلى الأبد. هكذا فعل شكسبير ببروتوس لاحقاً، لتحل عليه اللعنة مع كل قراءة أو أداء لـ«يوليوس قيصر»، بأي لغة وأي رؤية أو شكل وفي أي زمان أو مكان.
في «دانتي العادل»، يقول الشاعر الإيطالي أونغاريتي «إنّ هذا العمل (الكوميديا الإلهية) هو تعبير شاعر عن اعتقاده القوي بأنّ عدالة معينة تظل تفرض نفسها، وأنّ تسامياً أو خلاصاً، لا يبدو ممكناً، من دون أن يتلقى كل امرئ جزاء فعله، ثواباً كان ذلك أو عقاباً» (انظر كاظم جهاد: الأنشودات الثماني الأولى، الكرمل عدد 70 ـــــ 71، 2002). ربما لهذا السبب يقول دانتي في الأنشودة الثامنة من الجحيم، كما ترجمها الشاعر كاظم جهاد:
«كم من أناس يحسبون أنفسهم هناك ملوكاً جبارين
ويكونون هنا كالخنازير في الزبل
جالبين لأنفسهم أشنع الازدراء».
ويدلل على قباحة الخيانة أيضاً، وصف دانتي في «الجحيم»، لعقاب الخونة الشنيع والأبدي. ففيما يشارك يهوذا، مثلاً، بروتوس وكاسيوس العقاب (يلتهم أجسادهم وحش شيطاني بثلاثة رؤوس)، تظل عقوبتة مميزة عنهم. فالشيطان يلتهم رأسه أولاً، لا جسده، فيما يجري في الوقت ذاته سلخ الجلد عن جسده (فكرة رسم ويليام بليك للشيطان ذي الرؤوس الثلاثة مستوحاة من جحيم دانتي). وبلاغة الوصف في العذاب ربما تكون أكثر ما تكون دلالة، ليس على عقوبة مستحقة وجزاء عادل، بقدر ما تؤشر إلى قباحة الفعل أيضاً. وفي التاريخ العربي، ليس هناك ما هو أكثر بلاغة من وصف جهنم وقباحة الفعل (الظلم في هذه الحالة) مما ورد في سورة الكهف (الآية 29) في القرآن. ربما لهذا السبب افتتح «حزب الله» الرسالة المفتوحة عام 1985 بهذه الآية: «أنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا».
ماذا لو كان بمقدور أبي العلاء المعري أن يعيد كتابة «رسالة الغفران» في أيامنا، أو كان بمقدور دانتي اليغييري إعادة كتابة «الجحيم» في القرن الحادي والعشرين؟ هل كان أبو العلاء سيروي عن مشاهدة ابن القارح لأناس، نعرفهم جيداً، في جهنم؟ أم هل كان دانتي سيقوم بإضافة بعض الأموات وأشباح الأحياء، ممن عرفناهم ونعرفهم، إلى الدائرة التاسعة من الجحيم؟ أم كان، ربما، سيضيف دائرة عاشرة تناسب بشاعة أفعال أوغاد زمننا هذا؟
ربما لا يمكننا أن نعرف من كان أبو العلاء أو دانتي سيضيفان كسكان دائمين في الجحيم، لكن خيال الشعوب وعبقريتهم لا تعجز أبداً. كان الشاعر البلشفي فلاديمير ماياكوفسكي، قد تخيل مرة اختراع آلة للتنقل في الزمن، لتساعد الناس على تسريع الخطابات الطويلة والمملة للقادة السياسيين (ف. ماياكوفسكي: الحمامات العمومية). فكرة ماياكوفسكي الظريفة عن آلة الزمن قد تساعدنا على تخيل كيف ستكون كتب التاريخ والأدب والشعر العربي، وكذلك الأمثال الشعبية والنعوت السائدة في المستقبل. وتساعدنا على تخيل من سيلحق بأبي رغال وابن العلقمي وشاور، ومن، ربما، سيرجم الناس قبره في المناسبات الوطنية، ومن سيكون اسمه دلالة انحطاط وشتيمة في كلّ مصر وفي كلّ سلطة. لكن بسبب الوضوح الفاقع في وضعنا العربي الراهن (حتى قبل تسريبات ويكيليكس)، ربما لا نحتاج حتى إلى آلة الزمن ولا إلى أفكار ماياكوفسكي الظريفة، فبعض هذه الكتب، ربما يكون في طور الإعداد والتوثيق، وهذه المرة ستكون الإدانة بالصوت والصورة والوثيقة (ربما لم ير «غسان الجد» وأمثاله في أسوأ كوابيسهم أنّ إدانتهم ستكون في أحد أكثر المؤتمرات الصحافية مشاهدة، وعلى العديد من محطات التلفزة، ولاحقاً على الإنترنت لمن فاته البث المباشر).
لكن يظل توبيخ من يخون شعبه وعقابه، عبر تحوّله إلى رمز لأقذر فعلة ممكنة، دليلاً، ليس على بشاعة الفعل أو على شكل ما من أشكال العدالة الأخرى التي لم يتحدث عنها أونغاريتي أو دانتي فقط، لكن على قدرة الشعوب على تجاوزهم وتجاوز تأثيرات فعلتهم بمرور الزمن، والاستمرار في الوقت ذاته في فضحهم وتوبيخهم. فحتى يهوذا، صاحب أصل كلمة الخيانة، لم يستطع أن ينجو بفعلته الشنيعة ويحقق مبتغى أسياده. فالشعوب أقوى وأبقى ممن يخونها، كما يقول الشيخ إمام في «دار الفلك»:
«يهوذا خان
أكم يهوذا وباع مسيح
لا يهوذا دام
ولا جرح بيلازم جريح».
* أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدوليّة في جامعة ويسكونسن ــ بارك سايد
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment