4/20/14

بيئتنا: بين الجمال العتيق والتشويه العميق

عن خسارة الهويّة من أبسط جوانبها المهملة .. و عن غفلة لعينة تسلب الكثير من الذات ، بين لفتة عين وانتباهة ! عن فقر الروح والذات والهويّة ، الذي يمرّ ضرورة بطريق الغراب والغربة .. وطريق ائتمان من لا يقدر أو يهتم ، على ما لا يفقه  ! 


 من :
http://www.assafir.com/Article/18/347158 -----
هاني فحص

صحيح ان الزراعة عمل شريف ولطيـف وضرورة حياة، وصحيح أنها لا تكفي، أو لن تعود كافية، إذا بقي التكاثر السكاني سائراً مطرداً على وتيرته أو متسارعاً أكثر، أو حتى لو تباطأ.. لأننا كنا دائماً ونبقى أمام تناسب عكسي مطّرد، بين الإمكانات الغذائية الزراعية، والنباتية خاصة، وبين النمو السكاني.. ومنذ عقود من السنين تبلورت كونياً مشكلة التصحر المتسارع، ودائماً بفعل الإنسان، والجدل بين خيارات الانسان، الجيدة أو الرديئة، الضرورية أو الثانوية، وبين قوانين الطبيعة، صديقة الإنسان، الذي آثر الصراع معها بأدواته العلمية، على الصداقة والحـوار. ما ظهر في عملية التدمير للطبيعة، أي البيئة العضوية والمادية والروحية للإنسان، الذي عاد فتلقى آثار التدمير الذي اقترفه، في صحته الجسدية والنفسية وأنظمة عيشه وحياته وعلاقاته بذاته ومحيطه الجغرافي والبشري.. وفي عادات جسده المكانية.

صحيح ان الصناعة هي ضرورة أو قدر التاريخ.. ولكن ماذا فعلنا؟ أجبرنا الزراعة على التقهقر، وأمام ضرورات الحياة، عوضنا بالكمّ عن النوع، فأفرطنا في استخدام (الدفيئات) «البلاستيكية» مثلاً، و«الهرمونات» والمبيدات الحشرية الكيميائية، فقتلنا العصافير، ومهدنا لتحويل السرطان والسمنة والبلوغ المبكر، لأمراض وبائية، ومن أجل اللحوم، وكأننا أكلة لحوم، ونحن في خلقتنا وتركيب أسناننا، لسنا معدين لأكل اللحوم، أو اللحوم وحدها، أو دائماً ولو مع غيرها.. وهكذا أخذ حقل القمح وبستان النخيل والليمون والورد والعنب، يتحول بسرعة الى مرعى، أو بات مخصصا لزراعة الأعلاف الحيوانية، مع ما يقتضي من إخلال بوظائف خلايا الحيوانات والطيور الغبية، بدل الداجنة، فتنمو بشكل عشـوائي، وتفـقد كثيراً من رائحتها ونكهتها وقيمتها الغذائية. ونحن.. الجيل السابق لهذا الإنجاز التكنولوجي في مجال الغذاء، تصورنا ثم صدّقنا، حتى قالوا عنا بأننا كنا مساكين فقراء وعلى حافة الجوع! فأشبعونا. لماذا؟ ألأننا كنا نحفاء، بلا شحم معيق، رشيقين، أقوياء، مفتولي العضلات، نقضي نهارنا الصيفي في حصاد الحنطة، وبعدما نكون قد أفطرنا على التين اليابس أو الأخضر أو العنب أو الزبيب، أو الحليب أو البيض البلدي الطازج أو الزعتر والسماق البلدي والزيت.. أو حفنة من تمر اشتريناها بحفنة من قمح أو شعير.. ورغيف خبز أنضجته الصاج أو التنور، من حنطة فيها نخالتها وكل موادها اللازمة لغذاء الجسم وسلامته، ومن أصناف مختلفة أهمها البلدي شديد السمرة والقاسي (أي الجيد) ومنها الحوراني والدوشاني والطلياني.. ويتخللها شعير (نَبْوَة).. أو ذرة صفراء.. وأحياناً مع البرزق.. ونشارك من أول الليل الى سَحَره، في الدبكة في ليالي الأعراس، نغني ونفرح ونعرق ونشرب ماء قـُراحاً زلالاً من عين الضيعة، وكأننا لم نحصد ولم نتناول طعام العشاء، فولاً مطبوخاً على طريقتنا، وكنا نلطفه فنسميه (عصافير مكتّفة) أو عدساً بالبرغل (كبّة عدس).. وننام.. ننام ملء عيوننا.. وكانت الأمهات، قليل منهن، يرجّعن الشكوى من نحافة البنت أو الولد على باب البلوغ والحلم، فينصحن بأغذية غير متوفرة، ولا يلبث الولد أو البنت أن يبلغا الرشد أو يتزوجا حتى تمتلئ الخدود بلحم معافى.. الآن شكوانا العمومية واليومية من السمنة المرضية المستشرية والتي جعلتنا عرضة لابتزاز العلم والجهل معاً.

من الفقراء إذاً؟ نحن أيام زمان. أم نحن الآن والأولاد والأحفاد الذين، لو أغمضوا عيونهم وهم يتناولون طعامهم، لما فرقوا في الطعم، بين الخيارة والبندورة والجزر ولحم الفروج.. وسلم الله ما بقي لنا من معزى وغنم بلدي، عوّيس، وبقول برية من علت وصيفي وقرة وقرص عنة، وعكوب وبقية من عصافير تهرب منا أو تموت تباعاً بفعل السموم اللئيمة، عليها وعلينا... هذا ومساحات بلادنا العربية شاسعة، ومياهها ليست قليلة، والقلة، بالعلم والذوق والشعور بالمسؤولية والرغبة في الحياة، تصبح كثيرة بالإرادة، وإلا فلماذا تقل أو تساوي المساحة الخضراء من أرض العرب (14،5 مليون كلم مربع) المساحة الخضراء من فرنسا وحدها، ومساحتها قريبة من مساحة العراق وحده (حوالي نصف مليون كلم مربع)! العراق إياه.. الواسع، الخصب تربة وماء وبشراً وتنوع مناخ وشهرة زراعية، جعلت الماضين يسمونه (أرض السواد، أي الخضرة). العراق هذا.. يستورد أكثر من 90 في المئة من حاجاته الغذائية العضوية من إيران وتركيا والسعودية والأردن وسوريا وأوروبا.. حتى (الفجل الهولندي!!) والأرز (الياباني!!) والقمح (الأوسترالي!!) واللحوم (الهنغارية!!)، ولا أستبعد أن يستورد تمراً، إذا بقي الكسل معشعشاً فيه وبقي الفساد مقيماً في مؤسساته واستمر الفراغ التنموي الموروث من العهد السابق.. من دون تغيير، أو مع تغيير الى الأسوأ.

لو كانت الأرض مصدر غذاء فقط، لهان الأمر قليلاً، أو لنقل ذلك مع التردد الشديد، ولكن الأدهى، هو أنه مع أهمال الأرض والبيئة والزراعة (من دون صناعة وطبقة عاملة ذات حياة ومطالب مشتركة تجمعها).. مع الإهمال والإجرام وقلة الذوق، وفقدان الذاكرة، والفقر المدقع الى الأحلام، والعيش في الكوابيس اليومية، كوابيس الموت والتكفير المتبادل ومنع الحرية وسرقة الخبز، واستحضار الماضي بدل المستقبل.. لم يعد لنا جامع يجمعنا، إلا الطائفية، على حساب الدين والدنيا والوطن والحياة والشعر والحب وكل جماليات الكون والإنسان.

كانت الأرض تجمعنا وباجتماعنا حولها وفيها ومن أجلها، من أجلنا، كنا نتعلم قيماً ودروساً ونتبادل المعرفة الأهلية المتواضعة ولكنها عميقة.. كنا نحب كل جل التين، ولكن هناك تينة عسلانية في كعب الجل، حيث تميل التربة أكثر الى الحمرة المشوبة بالسواد، علامة الغنى بالمواد العضوية الطبيعية، هذه التينة كانت أحب التينات لدي.. لأنها ذات أفناد طويلة وتغطي مساحة واسعة، ومتواضعة، قريبة المنال (قطوفها دانية) لفتى مثلي لم يبلغ الحلم بعد وما زال قصير القامة، مكلف يومياً أن يأتي بسلة التين الى أهله بعد العودة من قطاف التبغ صباحات الصيف، للفطور والاستقواء على التعب، مع إلزامه والتزامه بأن يعرض بضاعته عل كل من يصادفهم في طريق العودة، ويعزم عليهم لتناول أكواز من تينه. وكأن التينة إياها، تفهمت وعقلت ما يدور بنفسي من رغبة في تقليل التعب اليومي، فكانت تجود وتظهر كل يوم وكأنها لم تُقطف بالأمس.. ولم أهجر جاراتها وأخواتها من شجرات التين في حقلنا.. بل كنت أستعين بها جميعها أحياناً.. وإن كان أكثر أكوازها مخصصاً للتجفيف (تين يابس) في (المسطاح) المفروش وبالعيزقان أي القصعين من أجل الطعم والرائحة، والمسيج بالبلان والتعتوب والطيون والقندول.. تبخرت صديقتي التينة ورفيقاتها، ومعها شجرات السماق والكرمة في كعب الجل.. لا أدري كيف؟ ومن محاها من كتابي ودفتري وعيني وغرزها غرزاً مؤلماً ولذيذاً في قلبي وذاكرتي..

للنص تتمة