6/1/12

سيجارة وموز.. وحرية

سيجارة وموز.. وحرية

اياد زيعور
«في العالم قوتان فقط: السيف والعقل، وعلى المدى البعيد ينهزم السيف دائماً أمام العقل»
نابليون بونابارت

الجلبة كبيرة في استعراض الفصح السنوي في مدينة نيويورك، الصحافيون يتراكضون لتصوير مشهد غير مألوف... بل مثير للدهشة، مجموعة من الحسناوات الممشوقات القامة يدخنَّ في الملأ بشكل استعراضي مليء بالتحدي والتفاخر... كانت أعراف العام 1929 تعتبر تدخين المرأة في العلن من الرذائل التي تدعو للخجل، لكن الحسناوات كن يتغطين بشعار نبيل: السيجارة هي مشعل الحرية Torch of Freedom. تحت هذا الشعار اعلنت الحسناوات ان السيجارة هي عنوان تحدي ظلم الرجل والتساوي معه... إنهن أبطال الحرية الجدد اللواتي يكسرن حاجز الخوف ويلهمن الأجيال الجديدة.
ستمر سنون طويلة قبل أن يتضح حقيقة ما جرى في ذلك اليوم، لم تكن الحسناوات بطلات الحرية بل كن مجموعة من العارضات المدفوع أجرهن لتحقيق هدف بعيد كل البعد عن الشعار الذي رفع. في الحقيقة فإن هذه العراضة لم تكن الا مجرد حملة علاقات عامة من حملات مؤسس هذا العلم لحساب شركات التبغ التي كانت تهدف لزيادة مبيعات السجائر عند النساء. بالرغم من قلة المتداول عنه، يعتبر ادوارد برنايز (Edward Bernays18911995) مؤسس علم العلاقات العامة، أحد عباقرة القرن العشرين الذين أسسوا لتفوق أميركا السياسي والاقتصادي ولانتصاراتها، لا سيما في الحرب الباردة. كان تأثير برنايز على المجتمع الأميركي والعالمي هائلا، حتى أن مجلة «لايف» اختارته كواحد من الشخصيات المئة الأكثر تأثيراً في القرن العشرين.
جلب نجاح برنايز الباهر في زيادة التدخين عند النساء الكثير من الاهتمام الى هذا العالم الشاب، ليس فقط من الشركات التي تهافتت على خدماته، بل حتى من السياسيين ومؤسسة الاستخبارات. وعلى مدى خمسين سنة سيلعب برنايز دوراً كبيراً في تطوير تقنيات التحكم بمزاج الجموع، وهي عملية سماها «هندسة المزاج» the engineering of consent، وهو العنوان الذي يحمله احد كتبه الذي نشر العام 1947.
اكتشف برنايز سهولة التحكم بالمزاج العام خلال عمله في وحدة الحرب الدعائية السرية Committee on Public Information اثناء الحرب العالمية الأولى التي كان دورها تغذية وسائل الاعلام بما يجب أن ينشر لدعم المواقف الحكومية (البعض يسميها الغرفة السوداء هذه الأيام). وبعد نجاحاته المتعددة في تغيير مزاج الجموع في التسويق، عاد برنايز لممارسة تقنياته لأهداف سياسية. في الخمسينيات، صمم برنايز حملة ناجحة للعلاقات العامة لحساب شركة الموز الاميركية شيكيتا Chiquita للإطاحة بحكومة غواتيمالا الديموقراطية.
فبعد انتخابه رئيساً، هددت إصلاحات الرئيس اربينز Jacobo Arbenz ارباح شركة «شيكيتا»، فكلفت الأخيرة برنايز مهمة تغيير المزاج في غواتيمالا تجاه الرئيس اربينز. كان اربينز يقوم بإصلاحات ذات شعبية عالية مثل توزيع الاراضي على الفلاحين الفقراء الذين يشكلون الغالبية الساحقة لشعب غواتيمالا والذين كانوا يعملون في ظروف مجحفة عند شركات الموز الاميركية. ومع ذلك تمكن برنايز بالتعاون مع المخابرات الأميركية من تحويل الصراع، الذي هو بأصله حول حقوق فقراء غواتيمالا في مواجهة جشع الشركات الاميركية، الى أشكال أخرى تحول فيها جزء كبير من الفقراء انفسهم الى ثوار ضد الذي كان يحاول مساعدتهم.
احتاج الامر الى صناعة الكثير من الأحداث الأمنية والإعلامية التي هندسها برنايز كما يهندس اي منتج لتتغير الصورة بالكامل وينطلي الامر على الشعب الاميركي ورئيسه قبل ان ينطلي على شعب غواتيمالا. لم يكن من السهل مواجهة المطالب الاجتماعية للفقراء، فقام برنايز باعادة تشكيل المشهد بإحياء النعرات العرقية بين قوميتي المستيوزو والمايا الأشد فقراً. وبحبكة لا تخلو من الخبث تحولت الصورة في الداخل الى صراع على النفوذ بين القوميتين.
وهكذا أدخل برنايز و«السي آي أي» غواتيمالا في حرب اهلية دامت 35 سنة. ولم يستثن برنايز في حملته، التي جند لها مئات الصحافيين ووسائل الاعلام، حتى الشعب والادارة الاميركية الذين صدقوا ان الصراع اصبح مع الشيوعيين الذين يهددون الأمن القومي الاميركي. فبعد سقوط حكم اربينز على يد «جيش الحرية» الذي أنشأته «السي آي أي»، ذهب الرئيس الاميركي هاري ترومان الى غواتيمالا ليحتفل بسقوط «التهديد السوفياتي» ووراءه كومة من الكتب الماركسية وجدت في القصر الرئاسي، كدليل قاطع على ارتباط اربينز بالمحور السوفياتي. علماً أنه اليوم، لا احد يشكك بأن هذه الكتب لم تكن إلا إحدى فبركات برنايز (بأعتراف ابنته)، وأن اربينز لم يكن له اي علاقة بالسوفيات أو بالشيوعية.
وفي أواخر حياته سئل برنايز عما اذا كان يحس بالذنب بسبب أن حملته أدت الى سقوط ربع مليون غواتيمالي بين قتيل ومفقود، فأجاب أنه كان يخدم مصلحة اميركا. ولما قيل له إن هذه الحرب الأهلية لم تخدم اميركا بل فقط خدمت زبونه شركة الموز الاميركية، اجاب بطريقة تعبر عن النفاق الذي جعله علماً، بأنه لا يفرق بين مصلحة الشعب والشركات الاميركية.
هذا النجاح الرخيص الكلفة للأميركيين، الذي سبقه بسنة واحدة نجاح آخر بإسقاط حكومة مصدق في ايران، سيؤسس لعقيدة حرب اميركية مبنية على تقنيات هندسة المزاج، وستبلغ ذروة نجاحها مع إسقاط الاتحاد السوفياتي. ولعل حروب بوش في العراق وأفغانستان كانت احدى الاستثناءات القليلة عن هذه العقيدة، والتي سرعان ما اعيد الاعتبار لها مع موجة الثورات الملونة و«الحرب الناعمة».
برنايز في الواقع لم يكن الا جزءا من حركة فكرية خلال القرن العشرين لا ترى في الإنسان العادي إلا مخلوقا فاقدا للرشد irrational تحركه الغرائز. هذه الحركة الفكرية كانت تعتمد على نظريات عالم النفس الشهير سيغموند فرويد الذي هو خال برنايز، وقد ضمت أسماء كبيرة مثل آنا ابنة فرويد التي اكملت مسيرة والدها في التأثير على علم النفس، ووالتر ليبمان (1889-1974) Walter Lippmann في الفكر السياسي الذي كان مستشار عدد من الرؤساء الاميركيين وأرنست ديختر (Ernest Dichter (1907-1991 الذي اشتهر في علم التسويق والدعاية (مصادفة، كلهم من اليهود الاميركيين من اصول نمساوية).
تحتقر هذه المجموعة الانسان العادي المكون للرأي العام، ولا ترى في الديموقراطية إلا شعاراً مناسباً يعطي للناس وهم السيطرة بينما السيطرة الحقيقية تكون للنخبة التي تتحكم بالأمزجة والرأي العام. ففي كتابه Propaganda كتب برنايز يقول «إن الذين يتلاعبون بالآليات غير المرئية للمجتمع يمثلون الحكومة الخفية التي هي الحاكم الحقيقي للبلاد».
وبينما اعتبر برنايز الديموقراطية وسيلة مناسبة لأميركا لأنها تسمح لها بالتفوق كونها الأكثر قدرة على هندسة المزاج، كان ليبمان اكثر اخلاقية. ففي كتاباته، شكك بقدرة المواطن العادي على فهم التعقيدات اللازمة لحكم البلاد، وبالتالي فهو دعا علانية لتسليمها للنخب القادرة على «صنع المزاج» Manufacturing of consent على حد تعبيره. فجاهر باعتبار الرأي العام مرجعاً غير صالح للحكم لكونه سريع التأثر بالأحداث والتقلبات. واعتبر ان الرأي العام هو صناعة مباشرة لآليات نقل الحقائق حيث يصبح الصحافيون هم الصناع الحقيقيون لمزاج الجموع.
ويمكن فهم تأثير آراء ليبمان في السياسة الاميركية الحالية عبر سياسات «الديبلوماسية العامة» public diplomacy التي، حتى من حيث اسمها، لا تختلف كثيرا عن العلاقات العامة. وتسمح «الديبلوماسية العامة» لوزارة الخارجية الاميركية بصرف ميزانيات هائلة على إنشاء علاقات مع فاعليات غير حكومية في مختلف البلاد، لا سيما مع الصحافيين وكل من يمكن وصفهم بالنخبة المتحكمة بمزاج الرأي العام بهدف تحقيق اهداف السياسة الاميركية.
ولعل المرجع الفكري الاساسي لكل هذه الحركة هو سيغموند فرويد (1932-1856) مؤسس مدرسة التحليل النفسي psychoanalysis الذي يؤمن بأن الانسان خاضع بشكل كبير لقطاعاته الغرائزية الحيوانية التي تعيش في اللاوعي unconscious. وبحسب فرويد، فإن دوافع الانسان الحقيقية هي غرائزية وبسبب كونها غير مقبولة اجتماعياً، فإن الانسان يحتاج الى تغليفها بأشكال متسامية (Sublimation ).
اتقن برنايز الاستفادة من نظريات فرويد، فأدرك أن الطريقة المثلى للتحكم بمزاج الانسان هي عبر تحريك غرائزه ولكن مع تقديم الغلاف المتسامي الذي تحتاج اليه لتنطلق، ولتصبح مقبولة اجتماعياً. وهكذا حرك برنايز غريزة التحدي والسيطرة عند المرأة ورفعها الى شعار نبيل هو الحرية، ليحول السيجارة من رذيلة اجتماعية، الى «مشعل الحرية».لا يكمن الخداع فقط في استعمال الشعارات النبيلة (الحرية) لتسهيل تحريك الغرائز(التحدي)، بل في ان الهدف النهائي لهذا الخداع يرمي الى شيء مختلف تماما لا يدركه المخدوع (زيادة مبيعات السجائر). ففي غواتيمالا استمر فقراء هذا البلد يتذابحون لمدة 35 سنة، وكل فريق يدافع عن مجموعته صادقاً ومخلصاً لها، في حين أن الهدف الحقيقي لكل هذه اللعبة لم يكن إلا المحافظة على ارباح شركة «شيكيتا»، وليس شيئاً غير ذلك.
عندما تدب الفتن وتفيض الغرائز، قد يتحرك البعض لمصالحه وهو مدرك لما يجري، وهؤلاء هم قلة، بينما تتحرك الغالبية بغرائزها وتتغطى بالشعار النبيل، وقد يوجد فيها من هو صادق مع شعاره. على الطرفين، يتقاتل الناس، تحركهم احيانا الدوافع النبيلة ويؤججهم في معظم الأحيان الخوف ويقودهم الغضب. المشهد معقد، وعندما يتعقد المشهد، غالباً ما يدفع البسطاء الثمن. قد يؤمن البعض ان ما يحدث هو ثورة بينما يؤمن آخرون أنها مؤامرة، لكن التاريخ يقول لنا إن الأمر قد لا يعدو كونه إلا... حملة ناجحة للعلاقات العامة!


لا تغضب

وروى الإمام مالك، أن رجلاً أتى إلى رسول الله (ص)، فقال: يا رسول الله، علّمني كلمات أعيش بهنّ، ولا تكثر عليّ فأنسى، فقال رسول الله (ص): لا تغضب! (الموطّأ: 2/906).