7/17/09

Mubarak's Egypt - Comments

Mubarak’s Egypt : زمن "لا-عودة"[1] الروح


أذاعت ال’ بي بي سي ’ (BBC) مؤخرّا برنامجا اسمه "مصر مبارك"، للإعلامي مجدي عبد الهادي، يحاول النظر في إرث النظام المصري، منجزاته، مستقبله، و آثاره العديدة في مختلف المجالات.. ويبدو أن البرنامج – وإن غير مدرك- أشار إلى مجموعة من الأبعاد الحضارية و الإنسانية في سرده و ضمن الآراء الغنيّة الواردة فيه، و التي توصّف الواقع الحالي و حال الإنسان ليس ضمن الإطار المصري فحسب، بل ضمن الإطار الشرقي-الإسلامي-العربي الأوسع.

الهجرة.. من الوطن والهوية

في "عزبة خير الله" حيث توجد مصر أخرى داخل القاهرة.. مصر يسكنها ويحكمها البؤس واليأس، يبدأ البرنامج بسرد وحديث مع بعض العمال المعدمين اللذين أتوا من أسيوط، "بلد جمال عبد الناصر" على حد تعبير أحدهم.. هجّروا لأنّ الصعيد ليس فيه ’أكل عيش’.. تحكي هجرتهم قصة أكثر عمقا من البحث عن حياة أفضل، لتطال قضية الإهمال الممنهج للفقراء، وبناء دول لا تعرف من أبناءها الّا ذوي الأموال المكدسة والصفقات الكثيرة، والأمبراطوريات الماليّة المتوارثة الضخمة.

تحكي الهجرة تحالف النظم الأمنية والسياسيّة مع النخب المالية والإقتصادية ، كما و تحكي شراكتهما في البحث عن استقرار الركود الذي يخنق التغيير و أي أمل فيه.. فالاستقرار يضمن استمراريتهما و توالدهما و اعطاءهما المزيد من السيطرة والتحكم المطلق بقدرات الأوطان والشعوب.

تستمر الهجرة في الظهور ضمن العديد من المقابلات والمواضيع في البرنامج، الهجرة على مستوايتها المختلفة: الهجرة الداخلية (الهروب ألى الداخل) و الخارجية (الهروب من الوطن) و النفسية و الروحيّة (الهروب من الهويّة-الذّات الحضاريّة و التغيير و الأمل و الإيمان بالوطن وشعبه). صارت الهجرة القسرية سمة مميزة لهذه الشعوب، التي ولا شك قسم كبير منها ندم على الثورة ضد الإستعمار، حين – وعلى الأقل – كان يوجد الأمل..

يبلغ مساق الهجرة في البرنامج قمته مع قصة شباب قرية " زنارة " الشديدة الوقع والعميقة الدلالات - قامر 24 شابّا بأغلى ما يملكون للهروب من جحيم الوطن: بحياتهم، وخسروا ! اختفوا جميعا (غرقا؟) في محاولتهم اليائسة لعبور المتوسّط نحو الشمال.. والغربة. تكررت الحادثة هذه السنة، وإن على قدر أقلّ، و ستظل مساحة اليأس والإغتراب تكبر على لوحة الحاضر ما لم يعالج أصل الداء.


الركود .. الأمان .. المساومات

يبدو أنّ أهم النقاط الإيجابيّة التي تسجل للنظام (والتعميم نحو أنظمة أخرى بديهيّ هنا وضروري)، هي ارساءه دعائم الاستقرار وتأمينه الحد الأدنى من الثبات والإستمرارية وإخضاع محاولات زعزعة أسسه. السفير الإسرائيلي السابق في القاهرة شامير يعتبر أنّ بناء البنى التحتيّة (على ضآلة حجمه - بعد أن كانت القاهرة غارقة في مياه الصرف الصحي، المياه القذرة وانعدام أبسط مقوّمات الحياة في السبعينات) و "الأمان و الإستقرار" منجزات تسجل للنظام، و هذا ما يدفع للتساؤل: أي استقرار نريد نحن؟؟ وما هو الحدّ المميّز بين الإستقرار والركود المانع لمسيرة الحياة والتطّور التاريخي و الإجتماعي؟؟

أمنطقيّ ومقبول أن يصير الإستقرار قيمة بحدّ ذاته، أغلى من النهوض والتطوّر و المسيرة نحو العدالة والإنسانيّة؟ قد تفيد الإشارة هنا إلى أنّ رأس النظام يكتسب أهميّة إلهيّة في شخصه لأنه الماضي والحاضر والمستقبل و الممسك بمفاتيح الإستقرار و الأمان (من ماذا؟).

يقول الدكتور جلال أمين: "لقد فشل مبارك في كل شيء، وخلق دولة طريّة ليس بمقدورها تسلّم المسؤوليّة".. و في حديث اللبرلة والإستقرار يبرز مبدأ "المساومات".. لقد تحوّل كل خيار من خيارات الدولة إلى مساومة، بين الإستقرار و الحريّات، بين إسرائيل و الداخل، بين المواقف والإقتصاد (المساعدات).. تحول كلّ شيء إلى مشي على خيط رفيع لا يمكن معه إلا تجذير "الإستقرار".

الفيل في الغرفة

و الفيل هنا هو المؤسسات الأمنيّة والعسكريّة، التي لم تتضخّم حجما ودورا فحسب، بل إنها حرفت وظيفتها الأساس من خدمة مصالح الشعب (ربّ عملها الشرعي الذي يدفع راتبها) غلى العمل لتأمين استمراريّة غير طبيعيّة للنظام، ما يضمن استمرار تضخّم دورها و تخطّيه حدوده الأمنيّة والعسكريّة..

في واحدة من المقابلات التي أجراها البرنامج، يتحدّث أحد العسكريين عن الخطوط الحمر التي تمثلّها المؤسسات العسكريّة و يبرر مضايقة وسجن الصحافيين الذين ينتقدونها.. خطوط حمر وممنوعات تشهد على غرابة الموقف: مؤسسة عامة تماهت مع ألوهيّة النظام ودغمت فيه حتى صارت مثله ركيزة للإستقرار والإستدامة !

تبقى نقطة مهمة هنا وهي أن المؤسسات العسكرية تحوّلت أيضا الى أمبراطورية مالية تضمّ مصانع كبرى، نواد ترفيهيّة ومؤسّسات تجارية متفوّقة بالدعم العام على العديد من المؤسسات الخاصة (ما يزعج حتى بعض كبار رجال الأعمال)، و المؤسسة العسكرية كونها من أكثر المؤسسات صحّة (وآخرها) تبدو للعديد – حتّى الليبراليين – الأمل الأخير (والوحيد) بالتغيير (!!).

أزمة الأخلاق، الوهن العام و مراحل اليأس

حاليا بالأسواق
كدب وغش وغدر وقسوة وفي أزمة أخلاق

تلعب أغنية "طارق الشيخ"، والتي بدايتها السطرين السابقين في الخلفية، مشيرة الى الأزمة الكبرى التي أنتجتها أنظمة "ما بعد الإستقلال" عامة.. أزمة الأخلاق. يورد السيد عبد الهادي مقابلة مع سيّدة (د. سارة خلّاط – جامعة القاهرة) عقدت العزم على ترك الوطن بحثا عن نوعّة حياة أفضل، وبحثا عن التسامح وتقبل الآخر. "لقد أصبح المصريون أكثر عدائيّة و أقل تسامحا لأنّهم في حالة مستمرّة من التوتّر العصبي". و هنا يمكن أن نقف لنتفكّر: أيمكن أن يلام من يبحث عن حياة (أو عن لقمة) فلا يجدها لأنّه شديد و سريع الغضب، أو لأنّه لا يتحلّى بملكة تقبل الآخر حضاريّا؟ يعيدنا هذا السؤال الى الأصل: اليأس، الشرخ الإجتماعي والحضاري العميق جدّا بين أبناء الوطن الواحد.

يورد الدكتور أحمد عكاشة المعادلة النفسيّة الآتية: الإحباط قد يتحوّل إلى عدوانيّة، أو كآبة فتوتّر، أو – وهنا الأخطر – الى لامبالاة.. هذه اللامبالاة الناتجة عن الإحباط تأخذ شكلا عاما، يطال مختلف جوانب الحياة والأفراد، و يبدو أنها هي بالتحديد ما نتج عن سنين اليأس المزمن.

إنّ ضعف الدولة ( على تضخّم أجهزتها ) و عدم قدرتها على تحمّل المسؤوليّة و انعدام علاقتها و ارتباطها بشؤون الشعب و شجونه، اذا عطفت على استمراريّتها الفوق طبيعيّة، عوامل ساعدت على نقل هذا الضعف والوهن التنظيميّين الى الشخصيّة والنفسيّة الجماعيّة للشعب، وهو ما له ارتباط سببي باليأس فأزمة الأخلاق.

ما وراء الحاضر.. و ثنائيّة التسامح والتخاذل

"لقد دارت الثورة 360 درجة، وعادت الى ما قبل 1952 مكملة استدارتها.." يقول السيد عبد الهادي مشيرا الى نصف قرن من أجل لا شيء[2]. الوراثة السياسيّة، الإصلاح، التقدميّة، الديموقراطيّة، العلم، والعدالة وغيرها مواضيع لم تغيّر ثورة وعقود طويلة من حالها شيئا.. حتى الحريّة.. خاصّة الحريّة.. أحالها الآن أفضل ؟

عبرة مهمة من السيّد ثروت عكاشة، الذي كان جزءا من نظام عبد الناصر وشارك في الثورة، و الذي يتوب بشجاعة عن فعلته "لو كنت أعرف أن النهاية ستكون هكذا.. لما قمت بالثروة!"، ضاربا كفّا بكف وساخرا بحسرة "بابا.. عايز أبقى زيّك" (وكم ينطبق هذا على الجميع).. إنذار من التاريخ للمراهنين على دور للعسكر في تغيير الواقع – يؤكّد البرنامج – فما السبيل إذا؟

ضمن استعراض بعض الليبراليين الناقدين الحال التي وصلت اليها البلاد، ترد مقابلة مع السيّدة أنجي حدّاد – ناشرة متخرّجة من جامعة هارفرد – التي عملت مع الحزب الحاكم قبلا حين آمنت بحتميّة التغيير، ثمّ اعتزلت بعد أن تبيّنت عدم صحّة افتراضها هذا. لقد أصيبت باليأس (القاسم المشترك الأكبر بين كل الخيوط) لعذابات الشعب.. "إنّ الإحساس بالعقم لا يمكن احتماله إلى أن يموت شيء ما في الروح".. تتساءل "لماذا لا يرمينا الفقراء بالحجار؟؟" و "كيف يمكن أن لأب أو أم أن يشاهد احتضار ولده لعدم القدرة على شراء الدواء؟!".. " كم يتطلّب هذا من التسامح.. أو الجبن؟!"، تختم بالتساؤل الأقوى – والمحيّر فعلا[3].


فعلا يمكن – ويجب – أن تطرح أسئلة كثيرة، ولكن بعد استعراض تنامي خطر الترهّل و الضعف ليطال الروح ذاتها، والدين، والحضارة، وبعد أن صار الموت الجسدي أبعد من الإندثار وموت الروح والأمل لا بدّ على الأقلّ أن نسأل أنفسنا... إلى أين، و ما العمل؟؟ّ



[1] في إشارة سلبية إلى رواية الكاتب توفيق الحكيم "عودة الروح" الحالمة بالبعث والنهضة بعد انحطاط وتقهقر واستعمار

[2] راجع "قرن من أجل لا شيء" ل لاكوتور، تويني و خوري

[3] يقول أبو ذر: " عجبت لمن لا يجد قوتأً في بيته ، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفيه"

No comments: